فصل: حكم العموم الذي لم يعلم تخصيصه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 وأما إن قيل‏:‏لابد من دليل شرعي يدل على حلها،سواء كان عامًا أو خاصًا، فعنه جوابان‏:‏

أحدهما‏:‏ المنع، كما تقدم‏.‏

والثاني‏:‏ أن نقول‏:‏ قد دلت الأدلة الشرعية العامة على حل العقود والشروط جملة، إلا ما استثناه الشارع‏.‏ وما عارضوا به سنتكلم عليه ـ إن شاء الله‏.‏ فلم يبق إلا / القول الثالث وهو المقصود‏.‏

وأما قوله صلى اله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط‏.‏ كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق‏)‏ فالشرط يراد به المصدر تارة، والمفعول أخري‏.‏ وكذلك الوعد والخلف‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ درهم ضرب الأمير، والمراد به هنا ـ والله أعلم ـ المشروط، لا نفس المتكلم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏(‏وإن كـان مائة شرط‏)‏ أي‏:‏ وإن كان مائة مشروط، وليس المراد تعديد التكلم بالشرط، وإنمـا المـراد تعديـد المشروط‏.‏ والدليـل على ذلك قولـه‏:‏ ‏(‏كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق‏)‏ أي‏:‏ كتاب الله أحق من هذا الشرط وشرط الله أوثق منه‏.‏ وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه؛ بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى‏.‏

وأما إذا كان المشروط مما لم يحرمه الله، فلم يخالف كتاب الله وشرطه، حتي يقال‏:‏ ‏(‏كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق‏)‏ فيكون المعني‏:‏ من اشترط أمرًا ليس في حكم الله أو في كتابه، بواسطة أو بغير واسطة، فهو باطل؛ لأنه لابد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط، حتي يصح اشتراطه، ويجب بالشرط، ولما لم يكن في كتاب الله أن الولاء لغير المعتق أبدًا كان هذا المشروط ـ وهو ثبوت الولاء لغير المعتق ـ شرطا ليس في كتاب الله‏.‏

/فانظر إلى المشروط إن كان فعلاً أو حكمًا‏.‏ فإن كان اللّه قد أباحه، جاز اشتراطه ووجب‏.‏ وإن كان اللّه تعالى لم يبحه، لم يجز اشتراطه‏.‏ فإذا شَرَط الرجل ألا يسافر بزوجته، فهذا المشروط في كتاب اللّه؛ لأن كتاب اللّه يبيح ألا يسافر بها‏.‏ فإذا شرط عدم السفر فقد شرط مشروطاً مباحاً في كتاب اللّه ‏.‏

فمضمون الحديث‏:‏ أن المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة، أو يقال‏:‏ ليس في كتاب اللّه، أي‏:‏ ليس في كتاب اللّه نَفيْه، كما قال‏:‏ ‏(‏سيكون أقوام يحدثونكم بما لم تعرفوا أنتم ولا آباؤكم‏)‏ أي‏:‏ بما تعرفون خلافه‏.‏ وإلا فما لا يعرف كثير‏.‏

ثم نقول‏:‏ لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم العقود والشروط التي لم يبحها الشارع تكون باطلة، بمعني‏:‏ أنه لا يلزم بها شيء، لا إيجاب ولا تحريم، فإن هذا خلاف الكتاب والسنة، بل العقود والشروط المحرمة قد يلزم بها أحكام؛ فإن اللّه قد حرم عقد الظهار في نفس كتابه، وسماه ‏{‏مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 2‏]‏، ثم إنه أوجب به على من عاد الكفارة، ومن لم يعد، جعل في حقه مقصود التحريم من ترك الوطء وترك العقد‏.‏ وكذا النذر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن النذر، كما ثبت ذلك عنه من حديث أبي هريرة، وابن عمر وقال‏:‏ ‏(‏إنه لا يأتي بخير‏)‏ ثم أوجب الوفاء به، إذا كان طاعة في / قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نذر أن يطيع اللّه فليطعه، ومن نذر أن يعصي اللّه فلا يَعْصِه‏)‏‏.‏

فالعقد المحرم قد يكون سبباً لإيجاب أو تحريم‏.‏ نعم لايكون سبباً لإباحة، كما أنه لما نهي عن بيع الغرر، وعن عقد الربا، وعن نكاح ذوات المحارم، ونحو ذلك، لم يستفد المنهي بفعله لما نهي عنه الاستباحة؛ لأن المنهي عنه معصية‏.‏ والأصل في المعاصي‏:‏ أنها لا تكون سبباً لنعمة اللّه ورحمته‏.‏ والإباحة من نعمة اللّه ورحمته، وإن كانت قد تكون سببًا للإملاء، ولفتح أبواب الدنيا، لكن ذلك قدر ليس بشرع، بل قد يكون سبباً لعقوبة اللّه تعالى‏.‏ والإيجاب والتحريم قد يكون عقوبة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عليهمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 160‏]‏، وإن كان قد يكون رحمة أيضا، كما جاءت شريعتنا الحنيفية‏.‏

والمخالفون في هذه القاعدة ـ من أهل الظاهر ونحوهم ـ قد يجعلون كل ما لم يؤذن فيه إذن خاص فهو عقد حرام،وكل عقد حرام فوجوده كعدمه،وكلا المقدمتين ممنوعة،كما تقدم‏.‏

وقد يجاب عن هذه الحجة بطريقة ثانية ـ إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن الشروط التي لم يبحها اللّه ، وإن كان لا يحرمها / باطلة ـ فنقول‏:‏

قد ذكرنا مافي الكتاب والسنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط عموماً، وأن المقصود هو وجوب الوفاء بها‏.‏ وعلى هذا التقدير فوجوب الوفاء بها يقتضي أن تكون مباحة؛ فإنه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة، وإذا لم تكن باطلة كانت مباحة‏.‏ وذلك لأن قوله‏:‏ ‏(‏ليس في كتاب اللّه‏)‏ إنما يشمل ماليس في كتاب اللّه لا بعمومه ولا بخصوصه، فإن ما دل كتاب اللّه على إباحته بعمومه فإنه في كتاب اللّه؛ لأن قولنا‏:‏ هذا في كتاب اللّه، يعم ماهو فيه بالخصوص وبالعموم‏.‏ وعلى هذا معني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَزَّلْنَا عليكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏89‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 111‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏، على قول من جعل الكتاب هو القرآن‏.‏ وأما على قول من جعله اللوح المحفوظ، فلا يجيء ههنا‏.‏

يدل على ذلك‏:‏ أن الشرط الذي ثبت جوازه بسنة أو إجماع صحيح بالاتفاق، فيجب أن يكون في كتاب اللّه، وقد لا يكون في كتاب اللّه بخصوصه، لكن في كتاب اللّه الأمر باتباع السنة واتباع سبيل المؤمنين، فيكون في كتاب اللّه بهذا الاعتبار؛ لأن جامع الجامع جامع، ودليل الدليل دليل بهذا الاعتبار‏.‏

/ يبقي أن يقال على هذا الجواب‏:‏ فإذا كان كتاب اللّه أوجب الوفاء بالشروط عموما، فشرط الولاء داخل في العموم‏.‏

فيقال‏:‏ العموم إنما يكون دالا إذا لم ينفه دليل خاص؛ فإن الخاص يفسر العام‏.‏ وهذا المشروط قد نفاه النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن بيع الولاء وعن هبته، وقوله‏:‏ ‏(‏من ادعي إلى غير أبيه، أو تولي غير مواليه، فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين‏)‏‏.‏

ودل الكتاب على ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَاليكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4، 5‏]‏ ‏.‏ فأوجب علينا دعاءه لأبيه الذي ولده، دون من تبناه، وحرم التبني‏.‏ ثم أمر عند عدم العلم بالأب بأن يدعي أخًا في الدين ومولي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة‏:‏ ‏(‏أنت أخونا ومولانا‏)‏0، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إخوانكم خَوَلكم ، جعلهم اللّه تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس‏)‏‏.‏

فجعل ـ سبحانه ـ الولاء نظير النسب، وبين سبب الولاء في قوله‏:‏ / ‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عليه وَأَنْعَمْتَ عليه‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏ ، فبين أن سبب الولاء هو الإنعام بالإعتاق، كما أن سبب النسب هو الإنعام بالإيلاد‏.‏فإذا كان قد حرم الانتقال عن المنعم بالإيلاد، فكذلك يحرم الانتقال عن المنعم بالإعتاق؛ لأنه في معناه، فمن اشترط على المشتري أن يعتق ويكون الولاء لغيره، فهو كمن اشترط على المستنكح أنه إذا أولد كان النسب لغيره‏.‏

وإلى هذا المعني أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏(‏إنما الولاء لمن أعتق‏)‏‏.‏

وإذا كان كتاب اللّه قد دل على تحريم هذا المشروط بخصوصه وعمومه، لم يدخل في العهود التي أمر اللّه بالوفاء بها؛ لأنه - سبحانه - لا يأمر بما حرمه فهذا هذا، مع أن الذي يغلب على القلب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد إلا المعني الأول، وهو إبطال الشروط التي تنافي كتاب اللّه، والتحذير من اشتراط شيء لم يبحه اللّه‏.‏ فيكون المشروط قد حرمه؛ لأن كتاب اللّه قد أباح عمومًا لم يحرمه، أو من اشتراط ما ينافي كتاب اللّه، بدليل قوله‏:‏ ‏(‏كتاب اللّه أحق، وشرط اللّه أوثق‏)‏‏.‏ فإذا ظهر أن لعدم تحريم العقود والشروط جملة وصحتها أصلان‏:‏ الأدلة الشرعية العامة، والأدلة العقلية التي هي الاستصحاب، وانتفاء المحرم، فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة في أنواع / المسائل وأعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع أو المسألة‏:‏ هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضي التحريم، أم لا ‏؟‏

أما إذا كان المدرك الاستصحاب ونفي الدليل الشرعي، فقد أجمع المسلمون، وعلم بالاضطرار من دين الإسلام، أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد ويفتي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان من أهل ذلك؛ فإن جميع ما أوجبه اللّه ورسوله وحرمه اللّه ورسوله مغير لهذا الاستصحاب، فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل لذلك‏.‏ وأما إذا كان المدرك هو النصوص العامة، فالعام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضًا لا يجوز التمسك به، إلا بعد البحث عن تلك المسألة‏:‏ هل هي من المستخرج، أو من المستبقي‏؟‏ وهذا - أيضًا - لا خلاف فيه ‏.‏

 وإنما اختلف العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه، أو علم تخصيص صور معينة منه‏:‏ هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له ‏؟‏ فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما‏.‏ وذكروا عن أحمد فيه روايتين، وأكثر نصوصه على أنه لا يجوز لأهل زمانه ونحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة، وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم‏.‏ وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره؛ فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن / انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه‏.‏ فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه‏.‏ وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض، سواء جعل عدم المعارض جزءا من الدليل، فيكون الدليل هو الظاهر المجرد عن القرينة ـ كما يختاره من لا يقول بتخصيص الدليل ولا العلة من أصحابنا وغيرهم ـ أو جعل المعارض المانع من الدليل، فيكون الدليل هو الظاهر، لكن القرينة مانعة لدلالته، كما يقوله من يقول بتخصيص الدليل والعلة من أصحابنا وغيرهم، وإن كان الخلاف في ذلك إنما يعود إلى اعتبار عقلي، أو إطلاق لفظي، أو اصطلاح جدلي، لا يرجع إلى أمر علمي أو فقهي‏.‏

فإذا كان كذلك، فالأدلة النافية لتحريم العقود والشروط والمثبتة لحلها مخصوصة بجميع ما حرمه اللّه ورسوله من العقود والشروط، فلا ينتفع بهذه القاعدة في أنواع المسائل إلا مع العلم بالحجج الخاصة في ذلك النوع، فهي بأصول الفقه ـ التي هي الأدلة العامة ـ أشبه منها بقواعد الفقه، التي هي الأحكام العامة‏.‏

نعم، من غلب على ظنه من الفقهاء انتفاء المعارض في مسألة خلافية أو حادثة انتفع بهذه القاعدة‏.‏ فنذكر من أنواعها قواعد حكمية مطلقة‏.‏

/ فمن ذلك‏:‏ ما ذكرناه من أنه يجوز لكل من أخرج عينا من ملكه بمعاوضة، كالبيع والخلع، أو تبرع كالوقف والعتق ـ أن يستثني بعض منافعها فإن كان مما لا يصلح فيه الغرر ـ كالبيع ـ فلابد أن يكون المستثني معلوما؛ لما روي البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي عن جابر قال‏:‏ بعته ـ يعني بعيره ـ من النبي صلى الله عليه وسلم، واشترطت حملانه إلى أهلي، فإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف، فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش سيده، أو عاش فلان، ويستثني غلة الوقف ما عاش الواقف‏.‏

ومن ذلك‏:‏ أن البائع إذا شرط على المشتري أن يعتق العبد، صح ذلك في ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما؛ لحديث بَرِيرة، وإن كان عنهما قول بخلافه‏.‏

ثم هل يصير العتق واجبًا على المشتري، كما يجب العتق بالنذر، بحيث يفعله الحاكم إذا امتنع، أم يملك البائع الفسخ عند امتناعه من العتق، كما يملك الفسخ بفوات الصفة المشروطة في المبيع ‏؟‏ على وجهين في مذهبهما‏.‏ ثم الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يرون هذا خارجا عن القياس؛ لما فيه من منع المشتري من التصرف في ملكه بغير العتق، وذلك مخالف لمقتضي العقد، فإن مقتضاه الملك الذي يملك صاحبه التصرف مطلقًا‏.‏

/ قالوا‏:‏ وإنما جوزته السنة؛ لأن الشارع له إلى العتق تشوف لا يوجد في غيره؛ ولذلك أوجب فيه السراية، مع مافيه من إخراج ملك الشريك بغير اختياره، وإذا كان مبناه على التغليب والسراية والنفوذ في ملك الغير لم يلحق به غيره فلا يجوز اشتراط غيره‏.‏

وأصول أحمد ونصوصه تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح، وإن كان فيه منع من غيره‏.‏ قال ابن القاسم، قيل لأحمد‏:‏ الرجل يبيع الجارية على أن يعتقها‏؟‏ فأجازه‏.‏ فقيل له‏:‏ فإن هؤلاء ـ يعني أصحاب أبي حنيفة ـ يقولون‏:‏ لا يجوز البيع على هذا الشرط‏.‏ قال‏:‏ لم لا يجوز‏؟‏ قد اشتري النبي صلى الله عليه وسلم بعير جابر، واشترط ظهره إلى المدينة، واشترت عائشة بَرِيرة على أن تعتقها، فلم لا يجوز هذا‏؟‏ قال‏.‏ وإنما هذا شرط واحد‏.‏ والنهي إنما هو عن شرطين‏.‏ قيل له ‏:‏ فإن شرط شرطين أيجوز ‏؟‏ قال‏:‏ لا يجوز‏.‏

فقد نازع من منع منه، واستدل على جوازه باشتراط النبي صلى الله عليه وسلم ظهر البعير لجابر، وبحديث بريرة، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهي عن شرطين في بيع، مع أن حديث جابر فيه استثناء بعض منفعة المبيع‏.‏ وهو نقص لموجب العقد المطلق، واشتراط العتق فيه تصرف مقصود مستلزم لنقص موجب العقد المطلق‏.‏

فعلم أنه لا يفرق بين أن يكون النقص في التصرف أو في المملوك،/ واستدلاله بحديث الشرطين دليل على جواز هذا الجنس كله، ولو كان العتق على خلاف القياس لما قاسه على غيره، ولا استدل عليه بما يشمله وغيره‏.‏

وكذلك قال أحمد بن الحسين بن حسان‏:‏ سألت أبا عبد اللّه عمن اشتري مملوكا واشترط‏:‏ هو حر بعد موتي ‏؟‏ قال‏:‏ هذا مُدَبِّر، فجوز اشتراط التدبير بالعتق‏.‏ ولأصحاب الشافعي في شرط التدبير خلاف‏.‏ صحح الرافعي أنه لا يصح‏.‏

وكذلك جوز اشتراط التسري، فقال أبو طالب‏:‏ سألت أحمد عن رجل اشتري جارية بشرط أن يتسري بها، تكون نفيسة، يحب أهلها أن يتسري بها، ولا تكون للخدمة‏؟‏ قال‏:‏ لا بأس به‏.‏ فلما كان التسري لبائع الجارية فيه مقصود صحيح جوزه‏.‏

وكذلك جوز أن يشترط بائع الجارية ونحوها على المشتري أنه لا يبيعها لغير البائع،وأن البائع يأخذها إذا أراد المشتري بيعها بالثمن الأول،كما رووه عن عمر وابن مسعود وامرأته زينب‏.‏

وجماع ذلك ‏:‏ أن المبيع الذي يدخل في مطلق العقد بأجزائه ومنافعه يملكان اشتراط الزيادة عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع‏)‏‏.‏ / فجوز للمشتري اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق، وهو جائز بالإجماع‏.‏ ويملكان اشتراط النقص منه بالاستثناء، كما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الثنيا إلا أن تعلم‏.‏ فدل على جوازها إذا علمت‏.‏ وكما استثني جابر ظهر بعيره إلى المدينة‏.‏

وقد أجمع المسلمون فيما أعلمه على جواز استثناء الجزء الشائع، مثل أن يبيعه الدار إلا ربعها أو ثلثها، واستثناء الجزء المعين إذا أمكن فصله بغير ضرر؛ مثل أن يبيعه ثمر البستان إلا نخلات بعينها، أو الثياب أو العبيد، أو الماشية التي قد رأياها، إلا شيئا منها قد عيناه‏.‏

واختلفوا في استثناء بعض المنفعة، كسكني الدار شهرًا، أو استخدام العبد شهرًا، أو ركوب الدابة مدة معينة، أو إلى بلد بعينه، مع اتفاق الفقهاء المشهورين وأتباعهم وجمهور الصحابة على أن ذلك قد ينفع، كما إذا اشتري أمة مزوجة‏.‏ فإن منفعة بضعها التي يملكها الزوج لم تدخل في العقد، كما اشترت عائشة بَرِيرة وكانت مزوجة‏.‏ لكن هي اشترتها بشرط العتق، فلم تملك التصرف فيها إلا بالعتق، والعتق لا ينافي نكاحها‏.‏ فلذلك كان ابن عباس رضي اللّه عنهما - وهو ممن روي حديث بريرة - يري أن بيع الأمة طلاقها، مع طائفة من الصحابة، تأويلًا لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏ قالوا‏:‏/ فإذا ابتاعها أو اتهبها أو ورثها فقد ملكتها يمينه‏.‏ فتباح له، ولا يكون ذلك إلا بزوال ملك الزوج‏.‏ واحتج بعض الفقهاء على ذلك بحديث بريرة، فلم يرض أحمد هذه الحجة؛ لأن ابن عباس رواه وخالفه‏.‏ وذلك - واللّه أعلم - لما ذكرته من أن عائشة لم تملك بريرة ملكا مطلقا‏.‏

ثم الفقهاء قاطبة وجمهور الصحابة على أن الأمة المزوجة إذا انتقل الملك فيها ـ ببيع أو هبة أو إرث أو نحو ذلك، وكان مالكها معصوم الملك ـ لم يزل عنها ملك الزوج ، وملكها المشتري ونحوه، إلا منفعة البضع‏.‏

ومن حجتهم‏:‏ أن البائع نفسه لو أراد أن يزيل ملك الزوج لم يمكنه ذلك، فالمشتري الذي هو دون البائع لا يكون أقوي منه، ولا يكون الملك الثابت للمشتري أتم من ملك البائع، والزوج معصوم لا يجوز الاستيلاء على حقه، بخلاف المسبية، فإن فيها خلافًا ليس هذا موضعه؛ لكون أهل الحرب تباح دماؤهم وأموالهم، وكذلك ما ملكوه من الأبضاع‏.‏

وكذلك فقهاء الحديث وأهل الحجاز متفقون على أنه إذا باع شجرًا قد بدا ثمره ـ كالنخل المؤبر ـ فثمره للبائع مستحق الإبقاء إلى كمال صلاحه، فيكون البائع قد استثني منفعة الشجر إلى كمال الصلاح‏.‏ /وكذلك بيع العين المؤجرة ـ كالدار والعبد ـ عامتهم يجوزه، ويملكه المشتري دون المنفعة التي للمستأجر‏.‏

وكذلك فقهاء الحديث كأحمد وغيره يجوزون استثناء بعض منفعة العقد، كما في صور الوفاق‏.‏ كاستثناء بعض أجزائه معينا ومشاعا، وكذلك يجوز استثناء بعض أجزائه معينا، إذا كانت العادة جارية بفصله، كبيع الشاة واستثناء بعضها‏:‏ سواقطها من الرأس، والجلد، والأكارع‏.‏ وكذلك الإجارة؛ فإن العقد المطلق يقتضي نوعًا من الانتفاع في الإجارات المقدرة بالزمان، كما لو استأجر أرضًا للزرع، أو حانوتا للتجارة فيه، أو صناعة، أو أجير لخياطة، أو بناء ونحو ذلك؛ فإنه لو زاد على موجب العقد المطلق، أو نقص منه، فإنه يجوز بغير خلاف أعلمه في النكاح، فإن العقد المطلق يقتضي ملك الاستمتاع المطلق الذي يقتضيه العرف حيث شاء ومتي شاء، فينقلها إلى حيث شاء إذا لم يكن فيه ضرر إلا ما استثني من الاستمتاع المحرم أو كان فيه ضرر، فإن العرف لا يقتضيه ويقتضي مُلكًا للمهر الذي هو مهر المثل، وملكها للاستمتاع في الجملة، فإنه لو كان مجبوبا أو عنينا ثبت لها الفسخ عند السلف والفقهاء المشاهير، ولو إلى منها ثبت لها فراقه إذا لم يفئ بالكتاب والإجماع، وإن كان من الفقهاء من لا يوجب عليه الوطء، وقسم الابتداء، بل يكتفي بالباعث الطبيعي، كمذهب أبي حنيفة /والشافعي ورواية عن أحمد، فإن الصحيح من وجوه كثيرة‏:‏ أنه يجب عليه الوطء، كما دل عليه الكتاب، والسنة، وآثار الصحابة، والاعتبار‏.‏ وقيل‏:‏ يتقدر الوطء الواجب بمرة في كل أربعة أشهر، اعتبارًا بالإيلاء‏.‏

ويجب أن يطأها بالمعروف، كما ينفق عليها بالمعروف‏؟‏ فيه خلاف في مذهب أحمد وغيره‏.‏ والصحيح الذي يدل عليه أكثر نصوص أحمد وعليه أكثر السلف‏:‏ أن ما يوجبه العقد لكل واحد من الزوجين على الآخر، كالنفقة والاستمتاع والمبيت للمرأة، وكالاستمتاع للزوج ليس بمقدر، بل المرجع في ذلك إلى العرف، كما دل عليه الكتاب في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عليهنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏ ، والسنة في مثل قوله صلى الله عليه وسلم لهند‏:‏ ‏(‏خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف‏)‏، وإذا تنازع الزوجان فيه فرض الحاكم ذلك باجتهاده، كما فرضت الصحابة مقدار الوطء للزوج بمرات معدودة، ومن قدر من أصحاب أحمد الوطء المستحق، فهو كتقدير الشافعي النفقة؛ إذ كلاهما تحتاجه المرأة ويوجبه العقد‏.‏ وتقدير ذلك ضعيف عند عامة الفقهاء، بعيد عن معاني الكتاب والسنة والاعتبار‏.‏ والشافعي إنما قدره طردًا للقاعدة التي ذكرناها عنه من نفيه للجهالة في جميع العقود، قياسا على المنع من بيع الغَرَر، فجعل النفقة المستحقة بعقد النكاح مقدرة، طردًا لذلك‏.‏/ وقد تقدم التنبيه على هذا الأصل‏.‏

وكذلك يوجب العقد المطلق سلامة الزوج من الجَبّ والعِنَّة عند عامة الفقهاء‏.‏ وكذلك يوجب عند الجمهور سلامتها من موانع الوطء كالرتق، وسلامتها من الجنون، والجذام، والبرص‏.‏ وكذلك سلامتهما من العيوب التي تمنع كماله، كخروج النجاسات منه أو منها، ونحو ذلك، في أحد الوجهين في مذهب أحمد وغيره، دون الجمال ونحو ذلك‏.‏ وموجبه؛ كفاءة الرجل ـ أيضا ـ دون ما زاد على ذلك‏.‏

ثم لو شرط أحد الزوجين في الآخر صفة مقصودة، كالمال والجمال والبكارة ونحو ذلك، صح ذلك، وملك المشترط الفسخ عند فواته، في أصح الروايتين عن أحمد وأصح وجهي الشافعي وظاهر مذهب مالك‏.‏ والرواية الأخرى‏:‏ لا يملك الفسخ إلا في شرط الحرية والدين‏.‏ وفي شرط النسب على هذه الرواية وجهان، سواء كان المشترط هو المرأة في الرجل، أو الرجل في المرأة، بل اشتراط المرأة في الرجل أوكد باتفاق الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم‏.‏ وما ذكره بعض أصحاب أحمد بخلاف ذلك لا أصل له‏.‏

وكذلك لو اشترط نقص الصفة المستحقة بمطلق العقد، مثل أن يشترط الزوج أنه مجبوب أو عنين، أو المرأة أنها رتقاء أو مجنونة،/ صح هذا الشرط باتفاق الفقهاء، فقد اتفقوا على صحة الشرط الناقص عن موجب العقد، واختلفوا في شرط الزيادة عليه في هذا الموضع، كما ذكرته لك‏.‏ فإن مذهب أبي حنيفة‏:‏ أنه لا يثبت للرجل خيار عيب ولا شرط في النكاح‏.‏ وأما المهر‏:‏ فإنه لو زاد على مهر المثل أو نقص عنه جاز بالاتفاق‏.‏

وكذلك يجوز أكثر السلف ـ أو كثير منهـم ـ وفقهـاء الحديـث ومالك ـ في إحدى الروايتين ـ أن ينقص ملك الزوج، فتشترط عليه ألا ينقلها من بلدها أو من دارها، وأن يزيدها على ما تملكه بالمطلق فيؤخذ عليه نفسه ألا يتزوج عليها ولا يتسري، وعند طائفة من السلف وأبي حنيفة والشافعي ومالك في الرواية الأخرى‏:‏ لا يصح هذا الشرط، لكنه له عند أبي حنيفة والشافعي أثر في تسمية المهر‏.‏

والقياس المستقيم في هذا الباب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث‏:‏ أن اشتراط الزيادة على مطلق العقد واشتراط النقص جائز، ما لم يمنع منه الشرع‏.‏ فإذا كانت الزيادة في العين، أو المنفعة المعقود عليها، والنقص من ذلك على ما ذكرت، فالزيادة في الملك المستحق بالعقد والنقص منه كذلك‏.‏ فإذا شرط على المشتري أن يعتق العبد، أو يقف العين على البائع أو غيره، أو أن يقضي بالعين دينًا عليه / لمعين أو غير معين، أو أن يصل به رحمه أو نحو ذلك، فهو اشتراط تصرف مقصود‏.‏ ومثله التبرع المفروض والتطوع‏.‏

وأما التفريق بين العتق وغيره بما في العتق من الفضل الذي يتشوفه الشارع، فضعيف‏.‏ فإن بعض أنواع التبرعات أفضل منه‏.‏ فإن صلة ذي الرحم المحتاج أفضل من العتق، كما نص عليه أحمد؛ فإن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أعتقت جارية لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو تركتيها لأخوالك لكان خيرا لك‏)‏؛ ولهذا لو كان للميت أقارب لا يرثون كانت الوصية لهم أولي من الوصية بالعتق‏.‏ وما أعلم في هذا خلافًا، وإنما أعلم الاختلاف في وجوب الوصية لهم‏.‏ فإن فيه عن أحمد روايتين‏:‏ إحداهما‏:‏ تجب؛ كقول طائفة من السلف والخلف، والثانية‏:‏ لا تجب؛ كقول الفقهاء الثلاثة وغيرهم‏.‏ ولو وصى لغيرهم دونهم‏:‏ فهل ترد تلك الوصية على أقاربه دون الموصي له، أو يعطي ثلثها للموصي له وثلثاها لأقاربه، كما تقسم التركة بين الورثة والموصي له‏؟‏ على روايتين عن أحمد‏.‏ وإن كان المشهور عند أكثر أصحابه هو القول بنفوذ الوصية‏.‏ فإذا كان بعض التبرعات أفضل من العتق لم يصح تعليله باختصاصه بمزيد الفضيلة‏.‏

وأيضًا، فقد يكون المشروط على المشتري أفضل، كما لو كان عليه دين للّه من زكاة، أو كفارة، أو نذر، أو دين لآدمي، فاشترط عليه /وفاء دينه من ذلك المبيع،أو اشترط المشتري على البائع وفاء الدين الذي عليه من الثمن، ونحو ذلك، فهذا أوكد من اشتراط العتق‏.‏

وأما السراية فإنما كانت لتكميل الحرية‏.‏ وقد شرع مثل ذلك في الأموال، وهو حق الشفعة‏.‏ فإنها شرعت لتكميل الملك للشفيع، لما في الشركة من الضرر‏.‏ ونحن نقول‏:‏ شرع ذلك في جميع المشاركات فيمكن الشريك من المقاسمة، فإن أمكن قسمة العين، وإلا قسمنا ثمنها إذا طلب أحدهما ذلك‏.‏ فتكميل العتق نوع من ذلك؛ إذ الشركة تزول بالقسمة تارة، وبالتكميل أخرى‏.‏

وأصل ذلك‏:‏ أن الملك هو القدرة الشرعية على التصرف في الرقبة، بمنزلة القدرة الحسية، فيمكن أن تثبت القدرة على تصرف دون تصرف شرعا، كما يثبت ذلك حسا؛ ولهذا جاء الملك في الشرع أنواعا ـ كما أن القدرة تتنوع أنواعا ـ فالملك التام يملك فيه التصرف في الرقبة بالبيع والهبة، ويورث عنه، ويملك التصرف في منافعه بالإعارة والإجارة والانتفاع وغير ذلك، ثم قد يملك الأمة المجوسية، أو المحرمات عليه بالرضاع، فلا يملك منهن الاستمتاع، ويملك المعاوضة عليه بالتزويج، بأن يزوج المجوسية المجوسي مثلا، وقد يملك أم الولد ولا يملك بيعها ولا هبتها، ولا تورث عنه عند جماهير المسلمين‏.‏ ويملك وطأها واستخدامها باتفاقهم‏.‏ وكذلك يملك المعاوضة على ذلك بالتزويج والإجارة / عند أكثرهم ، كأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد‏.‏

ويملك المرهون ويجب عليه مؤونته، ولا يملك فيه من التصرف ما يزيل حق المرتهن لا ببيع ولا هبة‏.‏ وفي العتق خلاف مشهور‏.‏

والعبد المنذور عتقه، والهدي، والمال الذي قد نذر الصدقة بعينه، ونحو ذلك مما استحق صرفه إلى القربة، قد اختلف فيه الفقهاء من أصحابنا وغيرهم‏:‏ هل يزول ملكه عنه بذلك أم لا ‏؟‏ وكلا القولين خارج عن قياس الملك المطلق‏.‏ فمن قال‏:‏ لم يزل ملكه عنه ـ كما قد يقوله أكثر أصحابنا ـ فهو ملك لا يملك صرفه إلا إلى الجهة المعينة بالإعتاق، أو النسك، أو الصدقة‏.‏ وهو نظير العبد المشتري بشرط العتق، أو الصدقة، أو الصلة، أو الفدية المشتراة بشرط الإهداء إلى الحرم‏.‏ ومن قال ‏:‏ زال ملكه عنه؛ فإنه يقول‏:‏ هو الذي يملك عتقه وإهداءه والصدقة به‏.‏ وهو أيضا خلاف قياس زوال الملك في غير هذا الموضع‏.‏

وكذلك اختلاف الفقهاء في الوقف على معين‏:‏هل يصير الموقوف ملكًا للّه،أو ينتقل إلى الموقوف عليه،أو يكون باقيًا على ملك الواقف‏؟‏ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره‏.‏

وعلى كل تقدير، فالملك الموصوف نوع مخالف لغيره من الملك في البيع والهبة‏.‏ وكذلك ملك الموهوب له، حيث يجوز للواهب الرجوع /كالأب إذا وهب لابنه عند فقهاء الحديث، كالشافعي وأحمد‏:‏ نوع مخالف لغيره، حيث سلط غير المالك على انتزاعه منه وفسخ عقده‏.‏

ونظيره‏:‏ سائر الأملاك في عقد يجوز لأحد المتعاقدين فسخه، كالمبيع بشرط عند من يقول‏:‏ انتقل إلى المشتري، كالشافعي وأحمد في أحد قوليهما، وكالمبيع إذا أفلس المشتري بالثمن عند فقهاء الحديث وأهل الحجاز‏.‏ وكالمبيع الذي ظهر فيه عيب أو فوات صفة، عند جميع المسلمين‏.‏ فههنا في المعاوضة والتبرع يملك العاقد انتزاعه، وملك الأب لا يملك انتزاعه، وجنس الملك يجمعهما‏.‏ وكذلك ملك الابن في مذهب أحمد وغيره من فقهاء الحديث الذين اتبعوا فيه معني الكتاب وصريح السنة‏.‏

وطوائف من السلف يقولون‏:‏ هو مباح للأب مملوك للابن، بحيث يكون للأب كالمباحات التي تملك بالاستيلاء، وملك الابن ثابت عليه، بحيث يتصرف فيه تصرفًا مطلقًا‏.‏

فإذا كان الملك يتنوع أنواعا، وفيه من الإطلاق والتقييد ما وصفته وما لم أصفه، لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضا إلى الإنسان، يثبت منه ما رأي فيه مصلحة له، ويمتنع من إثبات ما لا مصلحة له فيه‏.‏ والشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض‏.‏ فإذا لم يكن فيه فساد، أو كان فساده مغمورًا بالمصلحة لم يحظره أبدًا

 / وقال شيخ الإسلام ـ رَحمهُ اللّه‏:‏

فصل

العقود التي فيها نوع معاوضة ـ وهي غالب معاملات بني آدم التي لا يقومون إلا بها ـ سواء كانت مالا بمال؛ كالبيع، أو كانت منفعة بمال؛ كالإجارة والجُعَالة، وقد يدخل في المسألة الإمارة والتجنيد، ونحو ذلك من الولايات ‏.‏ أو كانت منفعة بمنفعة كالتعاون، والتناصر، ونحو ذلك‏.‏ تنقسم أربعة أقسام‏:‏

فإنها إما أن تكون مباحة من الجانبين‏.‏ كالبيع ، والإجارة ، والتعاون على البر والتقوي‏.‏ وإما أن تكون حرامًا من الجهتين؛ كبيع الخمر بالخنزير، والاستئجار على الزنا بالخمر، وعلى شهادة الزور بشهادة الزور،كما كان بعض الحكام يقول عن طائفة من الرؤساء ‏:‏ يتقارضون شهادة الزور ، وشبهه بمبادلة القروض‏.‏وإما أن يكون مباحًا من إحدى الجهتين، حرامًا من الأخرى‏.‏ وهذا القسم ينبغي لأهل الإسلام أن يعلموه ؛ فإن الدين والدنيا لا تقوم إلا به‏.‏

/ وأما القسم الأول وحده فلا يقوم به إلا دين ضعيف‏.‏

وأما الثاني فتقوم به الدنيا الفاجرة، والدين المبتدع، وأما الدين المشروع والدنيا السالمة فلا تقوم إلا بالثالث؛ مثل إعطاء المؤلفة قلوبهم لجلب منفعتهم، أو دفع مضرتهم، ورشوة الولاة لدفع الظلم، أو تخليص الحق، لا لمنع الحق، وإعطاء من يتقي شر لسانه، أو يده من شاعر، أو ظالم، أو قاطع طريق، أو غير ذلك‏.‏ وإعطاء من يستعان به على البر والتقوي من أعوان، وأنصار، وولاة، وغير ذلك‏.‏

وأصله في الكتاب والسنة، وسيرة الخلفاء الراشدين‏:‏ أن اللّه جعل للمؤلفة قلوبهم حقا في الصدقات التي حصر مصارفها في كتابه، وتولي قسمها بنفسه، وكان هذا تنبيها على أنهم يعطون من المصالح ـ ومن الفيء على القول الصحيح ـ التي هي أوسع مصرفا من الزكاة؛ فإن كل من جاز أن يعطي من الصدقة أعطي من المصالح، ولا ينعكس؛ لأن آخذ الصدقة إما أن يأخذ لحاجته، أو لمنفعته، وكلا الأمرين يؤخذ منهما للمصالح، بل ليست المصالـح إلا ذلك، والمؤلفـة قلوبهم هم مـن أهل المنفعة الذين هم أحق بمال المصالح والفيء‏.‏

ولهذا أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم من الفيء والمغانم، كما / فعله بالذهيبة التي بعث بها على من اليمن‏.‏ وكما فعل في مغانم حنين، حيث قسمها بين رؤساء قريش، وأهل نجد، وقال‏:‏ ‏(‏إني لأعطي رجالا، وأدع من هو أحب إلى منهم‏.‏ أعطي رجالا لما في قلوبهم من الهلع، والجزع، وأكل رجالا إلى ما جعل اللّه في قلوبهم من الغني والخير‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏إني لأعطي أحدهم العطية، فيخرج بها يتأبطها نارًا‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يارسول اللّه ؛ فلم تعطيهم‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ ‏(‏يأبون إلا أن يسألوني، ويأبي اللّه لي البُخْل‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده، ما من رجل يسألني المسألة، فتخرج له المسألة مالم نكن نريد أن نعطيه إياه فيبارك له فيه‏)‏ أو كلامًا هذا معناه‏.‏

وهذا القسم يشتمل على الأقسام الثلاثة‏:‏ أما المال بالأعيان، فمنه افتكاك الأسري، والأحرار من أيدي الكفار، والغاصبين؛ فإن المسلم الحر قد يستولي عليه الكفار، وقد يستولي عليه الفجار؛ إما باستعباده ظلمًا، أو بعتقه، وجحود عتقه‏.‏ وإما باستعماله بغير اختياره، ولا إذن الشارع؛ مثل من يسخر الصناع كالخياطين، والفلاحين، بغير حق، وإما بحبسه ظلما وعدوانا، فكل آدمي قهر آدميًا بغير حق، ومنعه عن التصرف‏.‏ فالقاهر يشبه الآسر، والمقهور يشبه الأسير، وكذلك القهر بحق أسير‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم للغريم الذي لزم غريمه‏:‏ ‏(‏مافعل أسيرك‏؟‏‏)‏‏.‏

/ وإذا كان الاستيلاء على الأموال إذا لم يكن بحق فهو غصب، وإن دخل في ذلك الخيانة والسرقة، فكذلك الاستيلاء على النفوس بغير حق أسر، وإن دخل فيه استيلاء الظلمة من أهل القبلة‏.‏

وكذلك افتكاك الأنفس الرقيقة من يد من يتعدي عليها ويظلمها، فإن الرق المشروع له حد، فالزيادة عليه عدوان‏.‏

ويدخل في ذلك افتكاك الزوجة من يد الزوج الظالم؛ فإن النكاح رق، كما دل عليه الكتاب والسنة، قال اللّه تعالى‏:‏‏{‏وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْباب‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 25‏]‏ ،وقال النبي صلى الله عليه وسلم في النساء‏:‏ ‏(‏إنهن عندكم عَوَان‏)‏‏.‏ وقال عمر‏:‏ النكاح رق، فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته‏.‏ وكذلك افتكاك الغلام والجارية من يد الظالم، كالذي يمنعه الواجب، ويفعل معه المحرم‏.‏

ومنه افتكاك الأموال من أيدي الغاصبين لها ظلمًا أو تأويلًا؛ كالمال المغصوب والمسروق وغيرهما، إذا دفع للظالم شيء حتي يرده على صاحبه‏.‏ وسواء كان الدفع في كلا القسمين دفعًا للقاهر حتي لا يقهر ولا يستولي، كما يهادن أهل الحرب عند الضرورة بمال يدفع إليهم، أو استنقاذًا من القاهر بعد القهر والاستيلاء‏.‏

 /وَقَالَ ـ رحَمهُ اللّه‏:‏

قاعدة فيما يجب من المعاوضات ونحو ذلك

فصل

بذل المنافع والأموال ـ سواء كان بطريق التعوض، أو بطريق التبرع ـ ينقسم إلى واجب ومستحب‏.‏

وواجبها ينقسـم إلى فرض على العـين، وفــرض على الكفايـة‏.‏ فـأمـا مـا يجب مـن التبرعات ـ مالًا ومنفعة ـ فله موضع غير هذا‏.‏ وجماع الواجبات المالية بلا عوض أربعة أقسام، مذكورة في الحديث المأثور‏:‏ ‏(‏أربع من فعلهن فقد برئ من البخل‏:‏ من آتي الزكاة، وقَرَي الضيف،ووصل الرحم، وأعطي في النائبة‏)‏‏.‏

ولهذا كان حد البخيل‏:‏ من ترك أحد هذه الأربعة في أصح القولين لأصحابنا، اختاره أبو بكر وغيره‏.‏

فالزكاة هي الواجب الراتب التي تجب بسبب المال، بمنزلة / الصلاة المفروضة، وأما الثلاثة فوجوبها عارض، فقري الضيف واجب عندنا، ونص عليه الشافعي، وصلة الأرحام واجبة بالإجماع؛ كنفقة الأقارب، وحمل العاقلة، وعتق ذي الرحم المحرم‏.‏ وإنما الاختلاف فيمن تجب صلته، وما مقدار الصلة الواجبة، وكذلك الإعطاء في النائبة، مثل الجهاد في سبيل اللّه، وإشباع الجائع، وكسوة العاري‏.‏ وقد نص أحمد على أنه لو صدق السائل، لما أفلح من رده‏.‏

وأما الواجبات المنفعية بلا عوض؛ فمثل تعليم العلم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونصر المظلوم وهي كثيرة جدًا‏.‏ وعامة الواجب في منافع البدن، ويدخل فيها الأحاديث الصحيحة من حديث أبي ذر ، وأبي موسي، وغيرهما‏:‏ ‏(‏على كل سلامي من ابن آدم صدقة‏)‏‏.‏ وتدخل ـ أيضا ـ في مطلق الزكاة، والنفقة في مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏ ، كما نقل مثل ذلك عن السلف الحسن البصري وغيره‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل معروف صدقة‏)‏ ، ويروي‏:‏ ‏(‏ما تصدق عبد بصدقة أعظم من موعظة يعظ بها أصحابًا له، فيتفرقون وقد نفعهم اللّه بها‏)‏ ودلائل هذا كثيرة ليس هذا موضعه‏.‏

وأما المنافع المالية، وهو كمن اضطر إلى منفعة مال الغير، كحبل ودلو يستقي به ماء يحتاج إليه، وثوب يستدفئ به من البرد ونحو ذلك - فيجب بذله، لكن هل يجب بذله مجانًا، أو بطريق التعوض،/ كالأعيان‏؟‏ فيه وجهان‏.‏

وحجة التبرع متعددة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ‏}‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 7‏]‏ ، ففي سنن أبي داود عن ابن مسعود قال‏:‏ كنا نعده عارية القدر والدلو، والفأس‏.‏ وكذلك إيجاب بذل منفعة الحائط للجار، إذا احتاج إليه، على أصلنا المتبع؛ لسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك من المواضع‏.‏

ففي الجملة، ما يجب إيتاؤه من المال، أو منفعته، أو منفعة البدن بلا عوض، له تفصيل في موضع آخر‏.‏ ولو كان كثير من المتفقهة، مقصرين في علمه، بحيث قد ينفون وجوب ما صرحت الشريعة بوجوبه‏.‏ ويعتقد الغالط منهم ‏(‏أن لا حق في المال سوى الزكاة‏)‏ أن هذا عام؛ ولم يعلم أن الحديث المروي في الترمذي عن فاطمة‏:‏ ‏(‏إن في المال لحقٍا سوى الزكاة‏)‏‏.‏

ومن قال بالأول‏:‏ أراد الحق المالي، الذي يجب بسبب المال، فيكون راتبًا، وإلا فنحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن اللّه قد أوجب إيتاء المال في غير الزكاة المفروضة في مواضع؛ مثل الجهاد بالمال عند الحاجة، والحج بالمال، ونفقة الزوجة، والأقارب ، والمماليك من الآدميين، والبهائم‏.‏ ومثل ما يجب من الكفارات من عتق وصدقة،/ وهدي كفارات الحج، وكفارات الأيمان، والقتل، وغيرها‏.‏ وما يجب من وفاء النذور المالية إلى أمثال ذلك، بل المال مستوعب بالحقوق الشرعية الراتبة، أو العارضة، بسبب من العبد، أو بغير سبب منه‏.‏ وليس هذا موضع تفصيل هذه الجملة‏.‏

وإنما الغرض هنا ما يجب من المعاوضات؛ مثل المبايعة والمؤاجرة، وما يشبه ذلك‏.‏ ومثل المشاركات؛ كالمساقاة، والمزارعة، ونحو ذلك‏.‏ فإن هذا كثيرًا ما يغلط فيه الغالطون لما استقر في الشريعة أن الظلم حرام، وأن الأصل أن هذه العقود لا تجوز إلا بالتراضي، إلا في مواضع استثناها الشارع، وهو الإكراه عليها بحق، صار يغلط فريقان‏:‏

قوم يجعلون الإكراه على بعضها إكراهًا بحق، وهو إكراه بباطل‏.‏

وقوم يجعلونه إكراها بباطل، وهو بحق‏.‏ وفيها ما يكون إكراها بتأويل حق، فيدخل في قسم المجتهدات، إما الاجتهادات المحضة، أو المشوبة بهوي، وكذلك المعاوضات‏.‏

ونحن نعلم قطعا أنه إذا كان إيتاء المال أو المنفعة بلا عوض واجبًا بالشريعة في مواضع كثيرة جدًا؛ لأسباب اقتضت الإيجاب الشرعي، وليس ذلك من الظلم الذي هو أخذ حق الغير بغير حق / ـ فلأن يكون إيتاء المال والمنفعة بعوض واجبًا في مواضع أولي وأحري، بل إيجاب المعاوضات أكثر من إيجاب التبرعات، وأكبر‏.‏ فهو أوسع منه قدرًا وصفة‏.‏

ولعل من استقرأ الشريعة تبين له أن المعاوضة إذا احتاج المسلمون إليها بلا ضرر يزيد على حاجة المسلمين وجبت، فأما عند عدم الحاجة، ومع حاجة رب المال المكافية لحاجة المعتاض، فرب المال أولي؛ فإن الضرر لا يزال بالضـرر، والرجل أحـق بمالـه مـن ولده ووالده، والناس أجميعن‏.‏ ‏(‏وابدأ بنفسك ثم بمن تَعُول‏)‏‏.‏

وهذه قاعدة حسنة مناسبة، ولها شواهد كثيرة في الشريعة، وأنا أذكر منها بتيسير اللّه تعالى‏.‏ وجماع المعاوضات أربعة أنواع‏:‏

معاوضة مال بمال؛ كالبيع‏.‏ وبذل مال بنفع كالجُعَالة‏.‏ وبذل منفعة بمال كالإجارة، وبذل نفع بنفع كالمشاركات، من المضاربة ونحوها فإن هذا بذل نفع بدنه، وهذا بذل نفع ماله‏.‏ وكالتعاون، والتناصر ونحو ذلك‏.‏

وبالجملة، فوجوب المعاوضات من ضرورة الدنيا والدين؛ إذ الإنسان لا ينفرد بمصلحة نفسه، بل لابد له من الاستعانة ببني جنسه، فلو لم يجب على بني آدم أن يبذل هذا لهذا ما يحتاج إليه، وهذا لهذا ما / يحتاج إليه،لفسد الناس،وفسد أمر دنياهم، ودينهم،فلا تتم مصالحهم إلا بالمعاوضة،وصلاحها بالعدل الذي أنزل اللّه له الكتب، وبعث به الرسل، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏ ‏.‏

ولا ريب أن النفوس مجبولة على بذل المعاوضة لحاجتها إليها، فالشارع إذا بذل ما يحتاج إليه بلا إكراه لم يشرع الإكراه، ورد الأمر إلى التراضي في أصل المعاوضة، وفي مقدار العوض‏.‏ وأما إذا لم يبذل فقد يوجب المعاوضة تارة، وقد يوجب عوضا مقدرا تارة‏.‏ وقد يوجبهما جميعا، وقد يوجب التعويض لمعين أخرى‏.‏

مثال الأول‏:‏ من عليه دين فطولب به، وليس له إلا عرض، فعليه أن يبيعه ليوفيه الدين؛ فإن وفاء الدين واجب، ولا يتم إلا بالبيع، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وللحاكم أن يكرهه على بيع العَرَض في وفاء دينه، وله أن يبيع عليه إذا امتنع؛ لأنه حق وجب عليه، فقبل النيابة، فقام ذو السلطان فيهم مقامه، كما يقوم في توفية الدين، وتزويج الأيم من كفئها إذا طلبته، وغير ذلك، وكما يقبض الزكاة من ماله، وسواء كان الدين الذي عليه برضي الغريم؛ كثمن مبيع، وبدل قرض، أو بغير رضاه؛ كقيم المتلفات، وأروش الجنايات‏.‏

/ ومن ذلك ضمان المغصوب إذا تعذر رد عنيه، ومن المغصوب الأمانات، إذا خان فيها، ومن الأمانات ما اؤتمن عليه من مال المسلمين كالعمال على الفيء والزكاة، والصدقات الموقوفة، ومال اليتيم، ومال الموكل كالشريك، والمضارب، ونحوهما‏.‏ ومال الفيء إذا خانوا فيها‏.‏ وتعذر رد عين المال، وكذلك بيع ماله لأداء ما يجب عليه من النفقات الواجبة لزوجته أو ولده أو نفسه‏.‏

وبالجملة، فكل من وجب عليه أداء مال، إذا لم يمكن أداؤه إلا بالبيع، صار البيع واجبا يجبر عليه، ويفعل بغير اختياره‏.‏

ومثال الثاني‏:‏ المضطر إلى طعام الغير إذا بذله له بما يزيد على القيمة؛ فإن له أن يأخذه بقيمة المثل، فإنه يجب عليه أن يبيعه وأن يكون بيعه بقيمة المثل، فإذا امتنع منهما أجبر عليهما، وإن بذل أحدهما أجبر الآخر‏.‏ والمسألة مذكورة في ‏[‏كتاب الأطعمة‏]‏ حتي إنه لو امتنع عن بذل الطعام فله أن يقاتله عليه؛ لأنه بمنزلة المقاتل عن نفسه‏.‏

ولهذا نضمنهم ديته لو مات، كما روي أن رجلًا استسقي قوما فلم يسقوه حتي مات، فضمنهم عمر ديته، وأخذ به أحمد، فإنه إذا وجب إطعام المضطر بلا عوض عند عجزه عنه، فلأن يجب بالمعاوضة أولي وأحري، وهكذا إذا اضطر الناس ضرورة عامة، وعند أقوام فضول أطعمة / مخزونة، فإنه يجب عليهم بيعها، وعلى السلطان أن يجبرهم على ذلك، أو يبيعها عليهم؛ لأنه فعل واجب عليهم، يقبل النيابة، فيجب إلزامهم بما وجب عليهم شرعا، وهو حق للمسلمين عندهم،فيجب استنقاذه منهم‏.‏وهكذا كل ما اضطر الناس إليه، من لباس وسلاح وغير ذلك، مما يستغني عنه صاحبه، فإنه يجب بذله بثمن المثل‏.‏

وقد كتبت قبل هذا حديث سمرة بن جندب في صاحب النخلة، لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم ببيعها فلم يفعل، وذكرت ما فيه من وجوب المعاوضة، التي يحتاج إليها المبتاع من غير ضرر البائع‏.‏

ولهذا نهي الشارع عن الاحتكار الذي يضر الناس في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يحتكر إلا خاطئ‏)‏ رواه مسلم، وغير ذلك‏.‏ والمحتكر مشتر متجر، لكن لما كان يشتري ما يضر الناس‏.‏ ولا يحتاج اليه حرم عليه، والبيع والشراء في الأصل جائزان غير واجبين، لكن لحاجة الناس يجب البيع تارة، ويحرم الشراء أخري‏.‏ هذا في نفس العقد‏.‏

وأما في مقدار الثمن فنهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يبيع حاضر لباد، لما فيه من إضرار المشتري، إذا توكل الحاضر للقادم بسلعته في البيع، مع حاجة الناس اليها، وقد يستدل بذلك على / وجوب بيعها بثمن المثل؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض‏)‏‏.‏

وهكذا بيع أحد الشريكين من الآخر في مالا ينقسم؛ فإن الشريك محتاج إلى البيع؛ ليأخذ نصيبه، ولا ضرر على الآخر فيه‏.‏ وكذلك تقويمه ملك الشريك إذا أعتق الشريك نصيبه؛ فإن العتق يحتاج إلى تكميل لما في تبعيض العتق من الضرر، من غير ضرر على البائع في بيع نصيبه، أو فيه ضرر دون الحاجة إلى تكميل العتق‏.‏

وهكذا فيمن تعلق حق الغير بماله؛ كمن له في ملك الغير عرق محترم من غراس أو بناء، أو بئر، كالمشتري إذا أخذ الشقص بالشفعة، والبائع إذا رد عليه المبيع بعيب وكان الثمن عقارًا،وكالمستعير والمستأجر إذا انقضت المدة، فإن لرب الأرض أن يبتاع ذلك بقيمته إذا لم يقلعه صاحبه،أو يبقيه بأجرة المثل، وكلاهما معاوضة؛إما على العين،أو على منفعة أرضه‏.‏

وكذلك إجبارنا لأحد الشريكين على الكري مع الآخر، أو العمارة معه، هو إجبار على المعاوضة؛ فإن العمارة تتضمن ابتياع أعيان، واستئجار عمال، فهي إجبار على شراء وإجارة؛ لأن الشريك محتاج إلى ذلك ولا ضرر على الباذل في ذلك، فتجب عليه المعاوضة معه؛ تارة لأجل القسمة، وتارة لبقاء الشركة‏.‏ وعلى هذا، فإذا احتاج المسلمون إلى/ الصناعات؛ كالفلاحة، والنساجة، والبناية، فعلى أهلها بذلها لهم بقيمتها، كما عليهم بذل الأموال التي يحتاج اليها بقيمتها؛ إذ لا فرق بين بذل الأموال، وبذل المنافع، بل بذل المنافع التي لا يضر بذلها أولي بالوجوب معاوضة، ويكون بذل هذه فرضًا على الكفاية‏.‏

وقد ذكر طائفة من العلماء من أصحابنا وغيرهم‏:‏ أن أصول الصناعات كالفلاحة، والحياكة، والبناية فرض على الكفاية‏.‏ والتحقيق‏:‏ أنها فرض عند الحاجة اليها، وأما مع إمكان الاستغناء عنها فلا تجب، وهذه حكينا بيعها؛ فإن من يوجبها إنما يوجبها بالمعاوضة، لا تبرعا‏.‏ فهو إيجاب صناعة بعوض؛ لأجل الحاجة اليها، وقولي عند الحاجة‏.‏ فإن المسلمين قد يستغنون عن الصناعة بما يجلبونه أو يجلب اليهم من طعام ولباس‏.‏

والأصل أن إعانة الناس بعضهم لبعض على الطعام واللباس والسكني، أمر واجب‏.‏ وللإمام أن يلزم بذلك، ويجبر عليه، ولا يكون ذلك ظلما، بل إيجاب الشارع للجهاد الذي فيه المخاطرة بالنفس والمال لأجل هداية الناس في دينهم أبلغ من هذا كله‏.‏ فإذا كانت الشجاعة التي يحتاج المسلمون اليها، والكرم الذي يحتاج المسلمون اليه واجبا، فكيف بالمعاوضة التي يحتاج المسلمون اليها‏.‏

ولكن أكثر الناس يفعلون هذا بحكم العادات، والطباع، وطاعة /السلطان،غير مستشعرين ما في ذلك من طاعة الله ورسوله، وطاعة أولي الأمر،فيما أمر الله بطاعتهم فيه‏.‏

ولهذا يعدون ذلك ظلما وعناء، ولو علموا أنه طاعة لله احتسبوا أجره، وزالت الكراهة، ولو علموا الوجوب الشرعي لم يعدوه ظلمًا‏.‏

وكذلك إذا احتاجوا إلى القتال والجهاد بالنفس، وبذلوا أموالًا من بيت المال، أو من غيره، فإن الجهاد وإن كان فيه مخاطرة بالنفس ويخاف فيه الضرر، لكنه واجب بالشرع، إذا بذل للإنسان المال؛ فإن مصلحة الدين لا تتم إلا بوجوبه، وعلى الإنسان أن يجاهد بمال نفسه، فإذا بذل له المال كان أولي بالوجوب‏.‏ فمن كان من أهل صناعات القتال‏:‏ رميا، وضربا، وطعنا، وركوبا، وجب عليه ذلك، وأجبر عليه؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وإذا استنفرتم فانفروا‏)‏‏.‏

ولهذا قال الفقهاء‏:‏ إنه يجب عينا إذا أمر به الإمام، وكذلك إذا / احتاج المجاهدون إلى أهل الصناعات، والتجارات؛ كصناع الطعام، واللباس، والسلاح، ومصالح الخيل، وغير ذلك، وطلبت منهم تلك الصناعة بعوضها، وجب بذلها، وأجبروا عليها‏.‏

وكذلك التجار فيما يحتاج اليه في الجهاد، عليهم بيع ذلك، وإذا احتاج العسكر إلى خروج قوم تجار فيه لبيع ما لا يمكن العسكر حمله من طعام ولباس وسلاح، ونحو ذلك، فالتجارة كالصناعة‏.‏ والعسكر بمنزلة قوم في بلد، فكما يجب على بعض إعانة بعض على حاجاتهم بالمعاوضة التي لا ضرر فيها، فإن ذلك واجب في العسكر‏.‏

وكما للإمام أن يوجب الجهاد على طائفة، ويأمرهم بالسفر إلى مكان لأجله، فله أن يأمر بما يعين على ذلك، ويأمر قومًا بتعلم العلم، ويأمر قوما بالولايات‏.‏

والإمام العدل تجب طاعته فيما لم يعلم أنه معصية، وغير العدل تجب طاعته فيما علم أنه طاعة كالجهاد‏.‏